تداعيات البعد الواحد
ما الذي بقي لديك الآن ؟ أما آن الأوان أن تكشف أوراقك بطريقة واضحة وصريحة ، دون اللجوء إلى التبريرات التي أدمنت عليها في جميع محطات الخيبة والإحباط التي رافقتك طيلة سنوات عمرك الطويلة .
ما الذي بقي لك ؟ رفاقك الذين قاسموك الهمّ سنوات رحلوا عنك ، ولم يعد لديك أحد تسامره وتناجيه ، وسميرة التي كانت ملاذك الأخير ، هي الأخرى اختارت طريقا آخر دون تمهيد أو إشارة ، ولا حتى كلمة وداع ، ورصيدك من المال بدأ بالتقلص إلى الحد الذي تقلصت معه نفقاتك في الأكل والشرب ، ولم يعد لك لا مال ولا صديق ولا امرأة تمتص الغضب المتمترس في عروقك ، وما عليك إلا أن تخلع هذا الرداء المزيّف المتلفع به ، ولو لفترة قصيرة ، لكي تشعر أنك سرت في الاتجاه الصحيح ، ولتغادر دائرة الوهم التي أنت فيها ، فقد تحرك جميع أصحابك نحو دروب الحياة الواسعة ، وبقيت وحدك تمثل دور البطل دون أن يسمعك أو يراك أحد .
ما الذي بقي لديك الآن ؟ لم تبق سوى مزبلة ذاكرتك التي تنبشها كلّ صباح ، لتمارس من خلالها لعبة إيهام ألذات ، والضحك على رأسك ، بعد أن فقدت صدر سميرة العجوز الذي كنت تتخذه حاضنة لأوهامك ، ورغم أن سميرة كانت تسمع ما تقوله على مضض وكره ، ورغم أنها كانت بحاجة إليك بقدر ما أنت بحاجة إليها ، إلا أنها جزعت من تكرار ما تقوله ، وهاجرت بعد أن خسرت لحظة الإشباع وقليلا من المال ، وخسرتَ صدرها الذي كنتَ تتخذه صنما تبكي عند أقدامه .
يحاصركَ الصقيع الآن من كلّ الجهات ، كقائد مدحور ، والأعداء حوله لا يسمع منهم سوى صيحات النصر ، ولا تملك غير البكاء .
عزيمتك منهارة ، وهمتكَ معطوبة ، وليس لديك إلا غرفتكَ المتربة المتداعية ، تبكي بين جدرانها ، دون أن يسمعك أحد .
لا مال ولا أنيس ولا أمل ينقذكَ ممّا أنتَ فيه ، فما الذي بقي لديك الآن ؟
بالأمس كنتَ تتفيأ خيمة صبري الشرهان ، وتتكىء على اسمه اللامع ، وسمعته الطيبة بين أهالي المدينة ، وكانَ يعلمُ أنكَ خذلته ـ وسحقتَ أمانيه التي كانت تراوده في أن تكون خليفة من بعده ، بعد أن عانى من قسوة حياته التي انتصرَ عليها بالصبر والمثابرة ، حتى نال الجاه والثراء ، إلا أنّ سحابة الحزن التي تغّـلفُ عينيه الواسعتين واضحة ، ويعرفُ الجميع أنتَ مصدرها ، ولكي تتجنب نظراته ، بدأتَ تتوارى عن وجهه خوفا من سياطه القاسية ، مبتعدا عن نظرات أمك المتوسلة لديه ألا يصيبك مكروه منه ، وعندما تجدُ نفسكَ مضطرا للوقوف أمامه ، كان يصرخُ فيك : كنْ رجلا مرّة واحدة ، فالحياة امرأة لعوب لا تخضع إلا للرجل الفحل الجسور .
أنتَ تنظرُ إلى وجه أبيك بذعر ، وعندما ترى سيل الغضب المتدفق من عينيه ، يرتدّ بصركَ إلى الأرض دون حراك ، وتبقى ساكنا ذليلا ، ولا يجد أبوك ما يحدّثكَ به ، فينفضُ عباءته منفعلا ويخرجُ من البيت ، عندها تتحركُ أنتَ الآخر ، وتخرجُ نحو شاطئ المدينة المكتظ بزعيق الباعة ، وأكداس القمامة ، وتزاحم الرجال والنساء ، والكل لديه مهمة جاء من أجلها إلا أنتَ ، كنتَ تبحثُ في عيون المارّة عن تعزية لما أنتَ فيه من خيبة وشقاء ، والآن مضى زمن طويل على موت أبيك ، لحقته أمك وفي قلبها غصّة منكَ ، وظلّ البيت المتداعي مهجورا إلا منك ، فما الذي بقي لديك ؟
هذا الصباح ، طرق بابكَ سلمان الهادي ، رفيق والدكَ ، وأحد أقربائك البعيدين ، دخلَ بجسده النحيل ، ورقبته الطويلة ، ورأسه الذي يشبه رأس خروف جائع مريض ، جلس على الكرسي المتداعي وهو يسندُ ظهره إلى الحائط الرطب ، وكنتَ تنظرُ إليه تارة والى الأرض تارة أخرى ، جاهدا نفسكَ على معرفة سرّ هذه الزيارة المفاجئة ، وبعد أن رمى عقب سيجارته من خلال فتحة الباب المخلوع ، اعتدلَ في جلسته وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجد ، ودون مقدمات ، قال ما يريد بوضوح : سالم ، اسمعني جيدا ، سأقولُ لكَ باختصار ، إنني أعاني من مرض قاتل سيدفعني إلى قبري لا محال ، وأنتَ تعرف إنني لا أملكُ غير بثينة ، ابنتي الوحيدة ، والحانوت الذي أعتا ش عليه ، وأنتَ قريبي وابن صبري الشرهان ، الرجل الطيب ، وقد امتدّ بكَ العمر ، وأنتَ تعيش وحيدا في هذا البيت ، لقد فكرتُ طويلا ولم أجدْ أحدا أمنحه ما أملك إلا أنتَ ، كنْ في مستوى المسؤولية ، وتوكل على الله ، وامنح حياتك بابا ترى من خلاله السعادة والاستقرار ، هذا ما أردتُ قوله ، فماذا تقول ؟ .
سلمان الهادي وضعَ مفتاح الفرج بين يديك ، وأنتَ ترمقه بنظرة بلهاء ، والدقائق تمرّ حبلى بالإحراج ، بين التنازل عن عرشكَ الوهمي وترسل ابتسامة إلى شفتي أبيك الراقد في قبره منذ سنين ، وبين رأس الحمار الذي حملته طيلة سنوات عمرك .
سلمان الهادي ينظرُ إليك ، وأنتَ تغضّ الطرف عنه ، وفي لحظة انهياركَ رفضتَ طلبه .
مسح سلمان الهادي جبهته المعروقة ، وفركَ يديه بعصبية ، وبلا كلمة وداع خرج من البيت بأسرع ممّا دخل إليه ، بينما أسرعتَ أنتَ نحو فراشكَ تدفنُ رأسكَ المتسوس ، وتجهشُ في بكاء حارق ، ظلت تردده أجواء غرفتكَ الغارقة في الظلام .
ما الذي بقي لديك الآن ؟ أما آن الأوان أن تكشف أوراقك بطريقة واضحة وصريحة ، دون اللجوء إلى التبريرات التي أدمنت عليها في جميع محطات الخيبة والإحباط التي رافقتك طيلة سنوات عمرك الطويلة .
ما الذي بقي لك ؟ رفاقك الذين قاسموك الهمّ سنوات رحلوا عنك ، ولم يعد لديك أحد تسامره وتناجيه ، وسميرة التي كانت ملاذك الأخير ، هي الأخرى اختارت طريقا آخر دون تمهيد أو إشارة ، ولا حتى كلمة وداع ، ورصيدك من المال بدأ بالتقلص إلى الحد الذي تقلصت معه نفقاتك في الأكل والشرب ، ولم يعد لك لا مال ولا صديق ولا امرأة تمتص الغضب المتمترس في عروقك ، وما عليك إلا أن تخلع هذا الرداء المزيّف المتلفع به ، ولو لفترة قصيرة ، لكي تشعر أنك سرت في الاتجاه الصحيح ، ولتغادر دائرة الوهم التي أنت فيها ، فقد تحرك جميع أصحابك نحو دروب الحياة الواسعة ، وبقيت وحدك تمثل دور البطل دون أن يسمعك أو يراك أحد .
ما الذي بقي لديك الآن ؟ لم تبق سوى مزبلة ذاكرتك التي تنبشها كلّ صباح ، لتمارس من خلالها لعبة إيهام ألذات ، والضحك على رأسك ، بعد أن فقدت صدر سميرة العجوز الذي كنت تتخذه حاضنة لأوهامك ، ورغم أن سميرة كانت تسمع ما تقوله على مضض وكره ، ورغم أنها كانت بحاجة إليك بقدر ما أنت بحاجة إليها ، إلا أنها جزعت من تكرار ما تقوله ، وهاجرت بعد أن خسرت لحظة الإشباع وقليلا من المال ، وخسرتَ صدرها الذي كنتَ تتخذه صنما تبكي عند أقدامه .
يحاصركَ الصقيع الآن من كلّ الجهات ، كقائد مدحور ، والأعداء حوله لا يسمع منهم سوى صيحات النصر ، ولا تملك غير البكاء .
عزيمتك منهارة ، وهمتكَ معطوبة ، وليس لديك إلا غرفتكَ المتربة المتداعية ، تبكي بين جدرانها ، دون أن يسمعك أحد .
لا مال ولا أنيس ولا أمل ينقذكَ ممّا أنتَ فيه ، فما الذي بقي لديك الآن ؟
بالأمس كنتَ تتفيأ خيمة صبري الشرهان ، وتتكىء على اسمه اللامع ، وسمعته الطيبة بين أهالي المدينة ، وكانَ يعلمُ أنكَ خذلته ـ وسحقتَ أمانيه التي كانت تراوده في أن تكون خليفة من بعده ، بعد أن عانى من قسوة حياته التي انتصرَ عليها بالصبر والمثابرة ، حتى نال الجاه والثراء ، إلا أنّ سحابة الحزن التي تغّـلفُ عينيه الواسعتين واضحة ، ويعرفُ الجميع أنتَ مصدرها ، ولكي تتجنب نظراته ، بدأتَ تتوارى عن وجهه خوفا من سياطه القاسية ، مبتعدا عن نظرات أمك المتوسلة لديه ألا يصيبك مكروه منه ، وعندما تجدُ نفسكَ مضطرا للوقوف أمامه ، كان يصرخُ فيك : كنْ رجلا مرّة واحدة ، فالحياة امرأة لعوب لا تخضع إلا للرجل الفحل الجسور .
أنتَ تنظرُ إلى وجه أبيك بذعر ، وعندما ترى سيل الغضب المتدفق من عينيه ، يرتدّ بصركَ إلى الأرض دون حراك ، وتبقى ساكنا ذليلا ، ولا يجد أبوك ما يحدّثكَ به ، فينفضُ عباءته منفعلا ويخرجُ من البيت ، عندها تتحركُ أنتَ الآخر ، وتخرجُ نحو شاطئ المدينة المكتظ بزعيق الباعة ، وأكداس القمامة ، وتزاحم الرجال والنساء ، والكل لديه مهمة جاء من أجلها إلا أنتَ ، كنتَ تبحثُ في عيون المارّة عن تعزية لما أنتَ فيه من خيبة وشقاء ، والآن مضى زمن طويل على موت أبيك ، لحقته أمك وفي قلبها غصّة منكَ ، وظلّ البيت المتداعي مهجورا إلا منك ، فما الذي بقي لديك ؟
هذا الصباح ، طرق بابكَ سلمان الهادي ، رفيق والدكَ ، وأحد أقربائك البعيدين ، دخلَ بجسده النحيل ، ورقبته الطويلة ، ورأسه الذي يشبه رأس خروف جائع مريض ، جلس على الكرسي المتداعي وهو يسندُ ظهره إلى الحائط الرطب ، وكنتَ تنظرُ إليه تارة والى الأرض تارة أخرى ، جاهدا نفسكَ على معرفة سرّ هذه الزيارة المفاجئة ، وبعد أن رمى عقب سيجارته من خلال فتحة الباب المخلوع ، اعتدلَ في جلسته وقد ارتسمت على وجهه ملامح الجد ، ودون مقدمات ، قال ما يريد بوضوح : سالم ، اسمعني جيدا ، سأقولُ لكَ باختصار ، إنني أعاني من مرض قاتل سيدفعني إلى قبري لا محال ، وأنتَ تعرف إنني لا أملكُ غير بثينة ، ابنتي الوحيدة ، والحانوت الذي أعتا ش عليه ، وأنتَ قريبي وابن صبري الشرهان ، الرجل الطيب ، وقد امتدّ بكَ العمر ، وأنتَ تعيش وحيدا في هذا البيت ، لقد فكرتُ طويلا ولم أجدْ أحدا أمنحه ما أملك إلا أنتَ ، كنْ في مستوى المسؤولية ، وتوكل على الله ، وامنح حياتك بابا ترى من خلاله السعادة والاستقرار ، هذا ما أردتُ قوله ، فماذا تقول ؟ .
سلمان الهادي وضعَ مفتاح الفرج بين يديك ، وأنتَ ترمقه بنظرة بلهاء ، والدقائق تمرّ حبلى بالإحراج ، بين التنازل عن عرشكَ الوهمي وترسل ابتسامة إلى شفتي أبيك الراقد في قبره منذ سنين ، وبين رأس الحمار الذي حملته طيلة سنوات عمرك .
سلمان الهادي ينظرُ إليك ، وأنتَ تغضّ الطرف عنه ، وفي لحظة انهياركَ رفضتَ طلبه .
مسح سلمان الهادي جبهته المعروقة ، وفركَ يديه بعصبية ، وبلا كلمة وداع خرج من البيت بأسرع ممّا دخل إليه ، بينما أسرعتَ أنتَ نحو فراشكَ تدفنُ رأسكَ المتسوس ، وتجهشُ في بكاء حارق ، ظلت تردده أجواء غرفتكَ الغارقة في الظلام .